بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 31 يناير 2012

يامحلى الفسحة ( بقلم هيام جميل )

استدعاني المحقق، وقال لي:
 -أهلين هيام!
لم أرد..
فوجئت بأنه يعرفني جيدا، ويعرف من هي "هيام"!
وقفت في زاوية الغرفة الباردة، مكتب أسود كبير في صدرها، لطالما توقعت هذه اللحظة، مرت بذاكرتي كل لياليّ على النت، المقالات التي كتبتها، الفيديوهات التي شاهدتها، وكل أصدقائي من المعتقلين السابقين واللاحقين، وشعرت أكثر ببرودة الغرفة.
دخل ضابط آخر: بتعرف مين هيام جميل؟ هي هيام!
تطلع إليّ شزرا، أحسست بأنني حيوان من فصيلة نادرة تم اصطياده ووضعه في قفص للفرجة، ورغم ذلك بقيت متماسكة، أعرف أن هذا عمله في النهاية، وأن عملي هو ألا أتحدث، على الأقل الآن، ريثما أستوعب الصدمة فقط، وعندما لزمت الصمت، استدعى المحقق عنصرا وقال له:
-خدها ع المنفردة!
ثم نظر إليّ غاضبا، و قال رافعا صوته:
-احتمال يكون فيه جرادين، بتتسلي معون شوي..

ابتسمت والعنصر المسكين ينفذ الأوامر باقتيادي إلى المنفردة، عبر ممر يتوسط طوابق من أسرة العناصر، وصلنا إلى آخره، عن يساره صف زنازين، فتح باب اول زنزانة، بابها حديدي أسود، حيز مظلم أطبق علي عندما أغلق العنصر الباب بقوة وأقفله ليملأ المكان ضجيج عنيف!
وفكرت، إذا هذه هي المنفردة التي تحدث عنها أصدقائي، في منفردة مماثلة أمضى رياض الترك سبعة عشر سنة، في منفردة أخرى أمضى صديقي أبو علي ثلاث سنوات، وفي المنفردات الأخرى بجواري ربما يقبع أصدقائي، ومن يعلم متى سنخرج؟
أحسست بالتعب يتسرب إلى قدميّ، جلست على مصطبة تعلوها بطانيتان للنوم، رائحتهما جعلتني أشك في أنني سأستخدمهما، والصراصير بالعشرات تمرح في المكان، طاقة منفردتي الصغيرة مفتوحة، ومنها يتسرب بعض الضوء من الممر، الضوء الأصفر الشاحب، وبمساعدة هذا الضوء استطعت رؤية ما حفر على الحيطان: أسماء لشبان وفتيات مروا من هنا، أحمد، رودي، وبضع كلمات بلغات أخرى، و"واحدات" اصطفت في طوابير طويلة ليتمكن المعتقل من حساب الأيام المتشابهة التي مضت على اعتقاله، وتناثرت هنا وهناك كالأزهار كلمة: حرية!

كانت الساعة قد قاربت الثالثة من بعد ظهر ذاك الخميس الأسود عندما أحسست باقتراب خطوات أحدهم من الممر، خبط على الباب الحديدي بيديه قائلا:
-صحنَك!
وقفت وناولته الصحن الوحيد هنا، وفوجئ وهو يمد يده لأخذ الصحن من يدي بوجهي!
أعاد لي الصحن مملوء بالأرز واللبن قائلا بصوت منخفض وهو يحاول ألا يتطلع في وجهي:
-خدي..
كان عنصران على الأقل مكلفين بتوزيع الطعام على المنفردات، أحدهما يخبط على الأبواب طالبا الصحن، والآخر يملؤه طعاما، ليعيده الأول قائلا:
-كول وغسل صحنَك بسرعة ولا!
وابتسمت عندما لاحظت أنهم يكرسون الخطاب إلى المذكر، وكأن اعتقال فتاة هنا هو استثناء لا يغير في اللغة شيئا!
أحببت أن أفهم هذا الخطاب على أنه موجه إلى "الإنسان" بوجه عام، مذكر أو مؤنث،  وراقت لي الفكرة!

أنهيت طعامي وبقيت فيه الفضلات، وتخيلت بحسّي النقدي العالي حجم الفضلات الناتجة عن كل نزلاء هذا الفرع، يوميا، بالمقارنة مع من يجوع خارجا، طردت الفكرة من دماغي، وغسلتها بماء الحنفية البارد:
-هلق أنا مو مطلوب مني فكر باللي عم يجوعوا برا، ولا اللي عم يموتوا، مطلوب فكر بحالي وبس!
تمددت على المسطبة، أصوات رش مياه وسحبها على أرض الممر الفاصل بين المنفردات، صوت المياه يعيد الحياة إلى أي مكان مهما كان موحشا، تذكرت بركة المياه أمام منزلنا، تذكرت النهر، تذكرت أبي وأمي، وانسابت دمعة من طرف عيني.
تنادت إليّ أصوات غسيل الصحون من المنفردات الأخرى، إنهم أصدقائي المعتقلون، ومثلي، لديهم عائلاتهم التي حرمت رؤيتهم وحرموا رؤيتها، إننا نأكل من القدر ذاته، الطعام ذاته، ونشرب من خزان واحد، ونعيش هنا معا، تحت سقف واحد، وفي الظلام ذاته!
إنهم السوريون الذين خرجوا لقدَر واحد، أحسست بأني لست وحيدة في هذا الطريق الطويل، هنالك الآلاف قبلي وحولي، وبعدي، أمواج بحر متتابعة تأبى إلا الذهاب إلى شاطئها الآمن والارتماء عليه!

وبدأت أدندن، وصوت المياه يملأ المكان، والضوء الشاحب يتسرب إلى زنزانتي:
-يا محلى الفسحة يا عيني.. على راس البر.. والقمر.. نور .. عيني.. عيني.. عيني.. على مو.. على موج البحر!


 هيام جميل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق